فصل: (فرع: النوافل في السفر)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: كيفية صلاة الليل]

والأفضل أن يسلم من كل ركعتين؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الليل مثنى مثنى».
ويجوز أن يصلي ثلاثًا، وأربعًا، وخمسًا، وستًا وأكثر، بسلام واحد، إلى أن قال الشافعي: (ويجوز أن يصلي النوافل، أي عدد شاء، سواء علم عدد ما صلى، أو لم يعلم، فإذا أراد أن يسلم.. تشهد وسلم).
وقد قيل: إن رجلاً من السلف كان يصلي النوافل بلا عدد، فقيل له في ذلك؟ فقال: الذي أصلي له يعرف العدد. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي [في "الإبانة" ق 77] يجوز له أن يصلي ثلاث عشرة ركعة بتسليمة، وهل يجوز له الزيادة على ذلك؟ فيه وجهان.
قال: وهو بالخيار بين أن يجلس في كل ركعتين، ويتشهد ولا يسلم، وبين أن لا يجلس إلا في الأخيرة منها، وقد وردت الأخبار في جميع ذلك.
قال: ومن أصحابنا من قال: لا يجلس إلا في الأخيرة، والذي روي عنه: أنه كان يجلس في كل ركعتين، فإنما كان يسلم عند كل جلسة، والأول أصح. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (يجوز أن يصلي نوافل النهار مثنى مثنى، وأربعًا أربعًا، فإن زاد على ذلك.. بطلت صلاته، والأربع أفضل).
وأما نوافل الليل: فتجوز مثنى، وأربعًا، وستًا، وثمانيًا، ولا يجوز الزيادة على ذلك، والأربع أفضل.
وقال مالك، وأحمد: (لا يزيد على ركعتين، ليلاً كان، أو نهارًا).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلاة الليل مثنى مثنى».
وروت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل تسع ركعات». وروى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة». وهذا إخبارٌ عن دوامٍ.
ويجوز أن يتطوع بركعةٍ لا غير.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ومن أحب أن يوتر بواحدة.. فليفعل».
وروي: (أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - دخل المسجد، فصلى ركعة لا غير، فقيل له في ذلك؟ فقال: إنما هو تطوع، فمن شاء. زاد، ومن شاء.. نقص).

.[فرع: السهو في النافلة]

فإن أحرم بركعتين نافلة، ثم قام إلى الثالثة ساهيًا.. عاد إلى التشهد، كما في الفرض، وإن نوى أن يكملها أربعًا.. جاز.
وهل يعود إلى القعود، ثم يقوم؟ فيه وجهان، حكاهما في "العدة".
وإن قام عامدًا من غير أن ينوي زيادة.. بطلت صلاته.
وإن نوى أربع ركعات في إحرامه، ثم سلَّمَ عن اثنتين.. فإن سلَّمَ ساهيًا.. قام، وأتم أربعًا، وسجد للسهو في آخرها، وإن نوى الاقتصار على اثنتين وسلَّم منهما.. فوجهان حكاهما في "العدة": الأصحُّ: أنه يصحُّ.
وإن نذر أن يصلي التطوعات قائمًا.. لم يلزمه ذلك؛ لأن القعود في النافلة رخصة، ونذره أن لا يقبل الرخصة لا يلزمه، كما لو نذر أن لا يفطر، أو لا يقصر في السفر، أو لا يمسح على الخف.
ولو نذر أن يصلي ركعتين قائمًا.. لزمه ذلك؛ لأنه نذر صلاة بصفةٍ مخصوصةٍ.. فلزمه.

.[فرع: النوافل في السفر]

يجوز التنفل وفعل الرواتب مع الفرائض في السفر.
وروي عن ابن عمر، وعلي بن الحسين: (أنهما كانا لا يتطوعان في السفر قبل الفريضة، ولا بعدها).
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يتطوع في السفر»، وكذلك روي عن عمر، وعلي، وابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -.
وقال الحسن البصري: كان أصحابُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسافرون، فيتطوعون قبل المكتوبة، وبعدها.

.[مسألة:تحية المسجد]

يستحب لمن دخل المسجد أن يصلي ركعتين من قبل أن يجلس، تحية للمسجد؛ لما روى أبو قتادة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا جاء أحدكم المسجد.. فليركع ركعتين من قبل أن يجلس».
فإن دخل وقد أقيمت الصلاة، أو أقيمت بعد دخوله، وقبل أن يصلي.. لم يصل التحية، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أقيمت الصلاة.. فلا صلاة إلا المكتوبة»؛ ولأن التحية تحصل له بالصلاة المفروضة، فإن صلَّى الفريضة أو شيئًا من الرواتب، ونوى به الفريضة وتحية المسجد، أو السُّنَّة الراتبة وتحية المسجد.. جاز؛ لأن التحية تحصل له من غير أن ينويها، فكانت نيته لها صحيحة. وبالله التوفيق.

.[باب سجود التلاوة]

سجود التلاوة مشروع للقارئ والمستمع إليه، لما روي عن ابن عمر: أنه قال: «كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقرأ علينا القرآن فإذا مرَّ بسجدةٍ.. كبَّر، وسَجَدَ، وسَجَدْنا معه».
فأما السامع من غير أن يقصد الاستماع: فقال الشافعي في " مختصر البويطي ": (لا أُؤَكِّدُ عليه، كما أُؤَكِّدُ على المستمع، فإن سجد.. فحسنٌ).
وقال أبو حنيفة: (التَّالي، والمستمع، والسامع: سواءٌ). وبه قال بعض أصحابنا الخراسانيين.
ودليلنا: ما روي عن عثمان: (أنه مرَّ بقاصٍّ، فقرأ ألفاظ سجدة؛ ليسجد عثمان معه، فلم يسجد، وقال: ما استمعنا لها).
وكذلك روي عن ابن مسعود، وابن عباس، وعمران بن الحصين، ولا يعرف لهم مخالفٌ.
فإن لم يسجد القارئُ.. فهل يسجد المستمع؟ اختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد، وأصحابنا البغداديون: يسجد المستمع؛ لأنه قد سُنُّ لهما، فلا يترك أحدهما بترك الآخر.
وقال القفال: لا يسجد؛ لأنه تابع له.
فإن كان القارئ في الصلاة، والمستمع مؤتم به، فلم يسجد القارئ.. لم يسجد المستمع، بلا خلافٍ بين أصحابنا؛ لأن عليه متابعته في أفعال الصلاة.
فإن كان القارئ في الصلاة، والمستمع في غير الصلاة.. قال الطبرانيُّ: لم يسجد المستمع معه.
وقال أبو حنيفة: (يسجد).
دليلنا: أنه غير مؤتمٍّ به، فلا يتبعه في السجود، كالتَّأمين.
وإن كان القارئ في غير الصلاة، والسامع في الصَّلاة.. قال ابن الصبَّاغ: فإنه لا يسجد، ولا ينبغي له أن يستمع القارئ، بل يشتغل بصلاته، فإن استمع.. لم يسجد؛ لأن سببها لم يوجد في الصلاة، ولا يسجد بعد فراغه من الصلاة.
وقال أبو حنيفة: (يسجد إذا فرغ من الصلاة). وبناه على أصله: أن السامع يلزمه السجود، ولا يمكنه أن يسجد في صلاته، فيسجد إذا فرغ.
وإن استمع المتطهر القراءة من المحدث، فمرَّ بآية سجدةٍ.. لم يسجد المستمع وقال أبو حنيفة: (يسجد).
دليلنا: أن القارئ لم يُسن له السجود، فلم يُسن للمستمع إليه، كالمأموم إذا لم يسجد الإمام.

.[مسألة:سجود التلاوة]

وسجود التلاوة سُنَّةٌ، وليس بواجب، وبه قال عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عباس، ومن الفقهاء: مالك، والأوزاعي.
وقال أبو حنيفة: (هو واجبٌ على القارئ والمستمع، إلا أنه إذا تكرر في مجلس.. لم تجب إلا الأولى، دون ما بعدها).
دليلنا: ما روي عن زيد بن ثابت: أنه قال: «عرضت والنجم على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلم يسجد منا أحدُ».
وروي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قرأ على المنبر سورة فيها سجدة، فنزل، وسجد، وسجد الناس معه، فلما كان في الجُمُعَةِ الثانية.. قرأها، فتهيأ الناس للسجود، فقال: (أيها الناس على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا، إلاَّ أن نشاء). وهذا بمجمع من الصحابة، ولم ينكر ذلك عليه أحد، فدل على أنه إجماع.
قال ابن الصباغ: فإن لم يسجد في موضع السجود.. لم يسجد بعد ذلك، لأنها تتعلق بسببٍ، فإذا فات.. سقطت.
فإن أخر السجود، وهو في مجلسه، فإن لم يطل الفصل.. سجد، وإن طال الفصل.. لم يسجد بعد ذلك؛ لأنه ليس بأعظم ممَّن ترك ركعة، وذكرها بعد السلام.
وإن سجد للتلاوة في مجلس، ثم أعاد تلك السجدة في ذلك المجلس.. سجد في أصح الوجهين.
وقال أبو حنيفة: (لا يسجد).
دليلنا: أن ما اقتضى السجود في مجلسين.. اقتضاه في مجلسٍ واحد، كالآيتين المختلفتين.

.[فرع: من سجود التلاوة]

قال الطبري في "العدة": إذا قرأ صبي، أو كافرٌ آية سجدةٍ.. لم يسجد المستمع.
وقال أبو حنيفة: (يسجد).
دليلنا: أن كل تلاوةٍ لا تقتضي السجود على التالي، لم تقتض السجود على المستمع، كقراءة المأموم في الصلاة.
قال: وإذا قرأ آية سجدةٍ في الصلاة، فلم يسجد حتى خرج منها.. قضى السجود.
وقال أبو حنيفة: (لا يقضيه).
دليلنا: أنه سجود زائد، مقتضاه كان في صلاة، فلم يسقط بالخروج من الصلاة كسجود السهو.

.[فرع: آية السجدة في الصلاة]

ولا تكره قراءة السجدة في الصلاة.
وقال مالك: (تكره).
وقال أبو حنيفة، وأحمد: (تكره في السِّرِّيَّة، ولا تكره في الجهريَّة).
دليلنا: ما روى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد في الظهر، فرأى أصحابه أنه قرأ آية سجدة، فسجد».

.[مسألة:سجدات التلاوة]

وسجدات التلاوة أربع عشرة سجدة، في القول الجديد: سجدةٌ في آخر (الأعراف)، عند قَوْله تَعَالَى: {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206].
وسجدة في (الرعد)، عند قَوْله تَعَالَى: {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15].
وسجدة في (النحل)، عند قَوْله تَعَالَى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50].
وسجدة في (بني إسرائيل)، عند قَوْله تَعَالَى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109].
وسجدة في (مريم)، عند قَوْله تَعَالَى: {خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58].
وسجدتان في (الحج): سجدة عند قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18]، وسجدة عند قوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77].
وسجدة في (تبارك: الفرقان)، عند قَوْله تَعَالَى: {وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60].
وسجدة في (النمل)، عند قَوْله تَعَالَى: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26].
وسجدة في (الم تنزيل) [السجدة]، عند قَوْله تَعَالَى: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15].
وسجدة في (حم تنزيل)، عند قَوْله تَعَالَى: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38].
وثلاث سجدات في المفصَّل:
سجدة في آخر (النجم)، عند قَوْله تَعَالَى: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62].
وسجدة في (الانشقاق)، عند قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21].
وسجدة في آخر اقرأ، عند قَوْله تَعَالَى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19].
وقال في القديم: (عزائم السجود إحدى عشرة سجدة). وأسقط ثلاث سجدات في المفصل، وبه قال مالك، وروي ذلك عن ابن عباس، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومجاهد.
لما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يسجد في شيء من المُفَصَّلِ، منذ تحول إلى المدينة».
قال أبو حنيفة: (ليس في الحج إلا سجدة واحدة). وهي الأولى، وأسقط الثانية.
دليلنا: ما روي عن عمرو بن العاص: أنه قال: «أقرأني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس عشرة سجدة في القرآن: منها ثلاث في المُفَصَّلِ، وفي الحج: سجدتان».
وروي عن عقبة بن عامر: أنه قال: «قلت لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: في [الحج] سجدتان؟ قال: نعم. من لم يسجدهما.. فلا يقرأهما».
وروي عن عمر: أنه سجد في [الحج] سجدتين، وقال: فضلت بسجدتين. وروي عن علي، وابن عمر، وابن عباس: أنهم سجدوا في [الحج] سجدتين.
وليس في شيء من مواضع السجود خلاف إلا سجدة حم؛ فإن الثوري - قال في إحدى الروايتين عنه- وأبا حنيفة، وأحمد: إنها عند قَوْله تَعَالَى: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]. وروي ذلك عن ابن عباس.
ودليلنا: أن الكلام إنما يتم عند قَوْله تَعَالَى: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]، فكان ذلك موضع السجود، كما قلنا في السجدة في: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50]، إنها عند قَوْله تَعَالَى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50].
ولأن هذا إن كان موضع السجود.. فقد أتى به في موضعه، وإن كان قبلهُ.. فتأخيره لا يضر، وإذا قدَّمَهُ.. لم يقع موقعه.

.[فرع: السجود عند منتهى السجدة]

قال الشيخ أبو حامد: وإذا سجد قبل منتهى السجدة.. لم يصحَّ، وإن سجد بعد الزيادة على موضع السجود.. جاز.

.[فرع: سجدة ص]

وأما السجدة التي في ص: فهي عندنا سجدة شكر، وليست من عزائم السجود.
وقال أبو حنيفة: (هي من عزائم السجود). وعزائم السجود عنده أربع عشرة سجدة، فأسقط الثانية في (الحج)، وجعل هذه من عزائم السجود، ووافقه أبو العباس بن سريج، على أن سجدة ص من عزائم السجود؛ لما روي «عن عمرو بن العاص: أنه قال:أقرأني رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس عشرة سجدة في القرآن». ولا تكون خمس عشرة سجدة، إلا بسجدة ص.
ودليلنا: ما روى ابن عباس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «سجدها داود توبة، ونحن نسجدها شكرًا».
وروي عن أبي سعيد الخدري: أنه قال: «خطبنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقرأ على المنبر ص، فلما بلغ السجود.. تشزَّنَّا للسجود.
وروي: تشزَّن الناس للسجود، فقال: إنما هي توبة نبي، ولكن قد استعددتم للسجود. فنزل، وسجد». فبين أنها توبة، وليست بسجدةٍ، و (التَّشَزُّنُ): التحرُّفُ، والتهيُّؤُ للشيء.
ومنه ما روي: أن عثمان بن عفان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سئل أن يحضر مجلس المذاكرة، فقال: (حتى أتشزَّن)، أي: حتى أستعد للاحتجاج.
ومنه: ما روي: (أن أبا سعيد الخدري أتى جنازة، فلما رآه القوم.. تشزَّنوا ليوسعوا له).
وأسمعنيه بعض شيوخي: تيسَّرنا للسجود، و (التيسُّر) أيضًا: التهيٌّؤ، ومنه قَوْله تَعَالَى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7] و {لِلْعُسْرَى} [الليل: 10]، أي: سَنُهَيِّؤُهُ.
وأما حديث عمرو: فإنما عدَّها سجدةً، على أنها سجدة شكر، بدليل ما ذكرناه، وسجدة الشكر تسمى: سجدةً.
إذا ثبت أنها سجدةُ شكرٍ: فإن سجدها في غير الصلاة على وجه الشكر.. جاز، وإن فعلها في الصلاة، فإن كان جاهلاً أو ناسيًا.. لم تبطل صلاته، وإن كان عالمًا بأنها ليست من عزائم السجود.. ففيه وجهان:
أحدهما: تبطل صلاته؛ لأنها سجدة شكر، فإذا فعلها في الصلاة عالمًا ذاكرًا.. أبطلها، كما لو بلغهُ شيءٌ يُسرُّ به، وهو في الصلاة. فسجد.
والثاني: لا تبطل صلاتهُ؛ لأنها سجدةٌ متعلقةٌ بالتلاوة، فلم تبطل بها الصلاة، كسائر السجدات.
قال صاحب "الإبانة" [ق 75] وإذا كان الإمام حنفيًّا، فسجد فيها.. لم يتابعه المأموم، ولكن ينتظره، حتى يفرغ.

.[فرع: شروط سجدة التلاوة]

ويشترط في صحة سجود التلاوة ما يشترط في الصلاة، من الطهارة، والستارة، واستقبال القبلة؛ لأنها صلاةٌ في الحقيقة.
وقال ابن المسيب: (الحائض تومئ برأسها إلى السجود، وتقول: اللهم لك سجدت). وروي ذلك عن عثمان.
دليلنا: أن ما نافى الصلاة نافى السجود، كالكفر، فإن قرأ آية سجدةٍ، أو سمع آية سجدةٍ، وهو محدث.. قال الشيخ أبو نصر: توضَّأَ وسجد.
وقال النخعي: يتيمم ويسجد.
دليلنا: أنه قادر على الطهارة بالماء، فلم يجز له التيمم، كالنفل.

.[مسألة:سجود التلاوة في الصلاة]

فإن كان سجود التلاوة في أثناء الصلاة.. فالمستحب أن يكبر تكبيرة للسجود، ثم يكبر للرفع منه.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: يسجد من غير تكبيرة، ويرفع من غير تكبير؛ لأنه ليس بسجود ثابت. والمذهب الأوَّل؛ لأنَّ التكبير مسنون في كل خفض ورفع، ولا يُسنُّ رفع اليدين في ذلك؛ لأن ذلك ليس بتكبير افتتاح.
ثم يقوم من السجود، فإذا استوى قائمًا.. فالمستحب أن يقرأ شيئًا من الذي بعد السجدة، ثم يركع، فإن لم يقرأ شيئًا، وركع من القيام.. صح، وإن قام من السجود إلى الركوع، ولم ينتصب قبل الركوع.. لم يصح الركوع.
وحكى صاحب "الإبانة" وجهًا آخر: أنه يصح!
والمذهب الأول؛ لأنه لم يبتدئ الركوع من قيام.
وإن كان السجود خارج الصلاة.. قال الطبري: فإنه ينوي، ويكبر رافعًا يديه؛ لأنها تكبيرة افتتاح، ثم يكبر تكبيرة ثانية للسجود، لا يرفع فيها يديه.
وقال أبو جعفر الترمذي - من أصحابنا -: يكبر تكبيرة واحدة للسجود لا غير.
والمذهب الأول؛ لأن هذا افتتاح للصلاة، فافتقر إلى التكبير، كسائر الصلوات.
والمستحب أن يقول في سجوده: «سجد وجهي للذي خلقه، وصوره، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته، فتبارك الله أحسن الخالقين»؛ لما روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول ذلك في سجود القرآن.
ويستحب أن يقول: اللهم اكتب لي عندك بها أجرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وضع عني بها وزرًا، واقبلها مني، كما قبلتها من عبدك داود؛ لما «روى ابن عباس: أن رجلاً أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: يا رسول الله، إني رأيت فيما يرى النائم، كأني أصلي خلف شجرة، فقرأت سجدة، فسجدت، فرأيت الشجرة سجدت لسجودي، فسمعتها وهي ساجدة تقول: اللهم اكتب لي عندك بها أجرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وضع عني بها وزرًا، واقبلها مني، كما قبلتها من عبدك داود - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: قال ابن عباس: فرأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قرأ السجدة، فسمعته وهو ساجد يقول مثل ما قال الرجل عن الشجرة».
وهل يسلم ويتشهد؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: هل يفتقر إلى السلام؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يسلم منه، كما لا يسلم منه في الصلاة.
والثاني: يسلم منه؛ لأنها صلاة افتقرت إلى الإحرام، فافتقرت إلى السلام، كسائر الصلوات.
فإذا قلنا بهذا: فهل يتشهد؟ فيه وجهان:
الأول: من أصحابنا من قال: يتشهد؛ لأنه سجود يفتقر على الإحرام والسلام، فافتقر إلى التشهد، كسجود الصلاة.
والثاني: منهم من قال: لا يتشهد. وهو المذهب؛ لأنه لا قيام فيه.
ومن أصحابنا من قال: في السلام والتشهد ثلاثة أوجه:
أحدهما: يفتقر إليهما.
والثاني: لا يفتقر إليهما.
والثالث يفتقر إلى السلام دون التشهد.

.[فرع: السجود حال السفر]

فإن كان القارئ ماشيًا في السفر.. فهل يكفيه الإيماء، أم يحتاج إلى وضع جبهته على الأرض؟ فيه وجهان، حكاهما في "الإبانة".
ولا يقوم الركوع مقام السجود.
وقال أبو حنيفة:هو بالخيار، إن شاء.. ركع، وإن شاء سجد.
دليلنا: قوله تعلى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]، ولأنه مستطيع للسجود، فلم ينب عنه الركوع، كسائر السجود.

.[مسألة:سجود الشكر]

ومن تجددت عليه نعمة ظاهرة، مثل: أن رزقه الله ولدًا، ومالاً، أو وجد ضالة له، أو اندفعت عنه نقمة ظاهرة، مثل: أن كان محبوسًا، فخلي، أو مريضًا، فشفي، أو هناك عدوٌ، فهزم.. فالمستحب له أن يسجد شكرًا لله، وبه قال أحمد.
وقال مالك: (يكره سجود الشكر). وهي إحدى الروايتين عن أبي حنيفة، وروي عنه: أنه قال: (لا أعرف سجود الشكر).
دليلنا: قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في سجدة ص: «سجدها نبي الله داود توبة، ونحن نسجدها شكرًا».
وروى عبد الرحمن بن عوف الزهري: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سجد، فأطال السجود، فلما رفع.. قلنا: يا رسول الله، سجدت، فأطلت السجود؟ قال: نعم، أخبرني جبريل - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن الله تعالى يقول: من صلى عليَّ مرةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عشرًا فسجدت شكرًا لله».
وروى ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مرَّ برجل به زمانة، فنزل وسجد شكرًا لله»، و: «مرَّ برجل أعمى، فنزل، وسجد شكرًا لله».
فإن كان هذا خارج الصلاة.. فإنه ينوي، ويكبر للافتتاح، ويرفع يديه، ثم يكبر للسجود، كما قلنا في سجود التلاوة، وإن كان في الصلاة.. لم يسجد؛ لأن سبب السجدة ليس منها.
فإن قرأ سورة ص.. فهل يسجد بها للشكر؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: يسجد؛ لأن سببها وجد في الصلاة، وهو التلاوة.
والثاني: لا يسجد؛ لأنها سجدة شكر، وليست بمتعلقة بالتلاوة، وإنما تجدد سببها عند التلاوة، فلم يسجد فيها في الصلاة، كسائر سجود الشكر.
وهل يظهر سجود الشكر، أو يخفيه؟ قال في "الإبانة": إن كان لتجدد نعمة.. أظهره، وإن كان لدفع بليَّةٍ.. نظرت: فإن رأى فاسقًا، فسجد شكرًا لله حين عصمه من فسقه.. فإنه يظهره، وإن كان رأى مبتلى، فسجد شكرًا لله حين عافاه الله.. فإنه يخفيه، لئلا يراه المُبْتَلَى، فيسخط.